کد مطلب:39870 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:261

مکانته العلمیة











لا أحسب فی خلال عمر ابن الصبّاغ المالكی توجد لحظة أو فترة ذهبت سدی، أو راحت ولم یترك فیها أثراً فكریّاً أو خطوة علمیة، لذلك لو عدّدنا أوراق تآلیفه وتتبّعنا صفحات مصنّفاته وجدناها تربو بكثیر علی أیّام عمره وساعاته الحافلة بالجهاد العلمی الّذی ترتسم علی كلِّ اُفقٍ من آفاق هذا العالم الإسلامی. فكان من الرجال المعدودین الّذین امتازوا فی التاریخ الإسلامی بمواهب وعبقریات دفعتهم

إلی الأوج الأعلی والقمّة الشاهقة من آفاقهم، فإذا أسماؤهم ومآثرهم كالشهب الوهّاجة تتلألأ فی كبد السماء مادامت الحیاة.

وقلیل الّذین ترتسم أسماؤهم فی كلِّ اُفق من تلكمُ الآفاق، وتستنیر مآثرهم مدی الحیاة، إلّا اُولئك الأفذاذ الّذین ارتفعت بهم الطبیعة، فكان لهم من نبوغهم النادر وشأنهم العظیم ما یجعلهم أفذاذاً فی دنیا الفكر الإسلامی كلّها، ومنهم الشیخ المؤلّف، فقد شاءت المنحة الإلهیة والإرادة الربّانیة أنْ تبارك عمله ویراعه وبیانه، فتخرج منهم للأجیال والشعوب نتاجاً فكریاً من أفضل النتاج، وغذاءً معنویاً تتغلّب به علی التیّارات السامّة الوافدة علیها من خارج الوطن الإسلامی، وما تحیكه أذناب الجهل والعمالة داخل الوطن من انحراف مسیر المسلمین واتجاهاتهم البنّاءة الهادفة إلی توحید الكلمة وكلمة التوحید.

وقد لا أكون مبالغاً ولا متعصّباً ولامنحازاً حین اُطلق العنان للقلم فیسجّل: أنّ ابن الصبّاغ یتقدّم بما أنتجه وكتبه وصنّفه إلی الطلیعة من علماء المالكیة ورجالاتها الّذین كرّسوا حیاتهم طول أعمارهم لخدمة الحقّ والواقع، وبهذا استحقّ أن یتصدّر مجلس المالكیة فی العالم الإسلامی الحاضر، وحتّی فی عصوره المقبلة.

لقد منح- المترجَم له- لكلِّ لحظة من لحظات حیاته حساباً خاصّاً، ومسؤولیةً هامّة یتساءل عنها ویحاسب علیها، فبنی حیاته علی قول الإمام أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام حیث یقول: «والفرصة تمرُّ مرَّ السحاب، فانتهزوا فرص الخیر»[1] ومنه أخذ ابن المقفّع عبداللَّه، فقال: انتهز الفرصة فی إحراز المآثر، واغتنم الإمكان باصطناع الخیر، ولا تنتظر مایعامل فتجازی عنه مثله، فإنّك إن عوملت بمكروهٍ واشتغلت ترصد أوان المكافأة عنه قصر العمر بك عن اكتساب فائدة وافتناء منقبة، وتصرّمت أیّامك بین تعدٍّ علیك وانتظارٍ للظفر بإدراك الثأر من

خصمك، ولاعیشة فی الحیاة أكثر من ذلك [2] .

كان الشیخ- المترجَم له- من أكابر المحقّقین الأعلام وأعاظم علماء الإسلام، كشّافاً لمعضلات الدقائق بذهنه الثاقب، وفتّاحاً لمقفلات الحقائق بفهمه الثاقب، حسن التقریر والإنشاء، جیِّد التحریر والإملاء، جمیل الأخلاق والشیم، حمید الآداب والحكم، فی علیا درجةٍ من الزهد والورع والتقوی والدین، وسمیا مرتبةٍ من مراتب الفقهاء والمجتهدین، رفیع القدر بین طبقات أهل الفضل، مرموق المكانة فی عیون كبار أصحابه، محترم الجانب من قبل أعاظم سائر المذاهب الإسلامیة، وینوَّه عنه فی مجالسهم ومحافلهم بكلِّ إجلال، ویلقّب بألقاب التفخیم: كالعلَّامة، والإمام، والشیخ، والبحر، إلی غیر ذلك من ألفاظ الإعجاب والتقدیر الّتی تنمّ عن علوّ منزلته العلمیة، كما صرَّحت بذلك كتب الأوائل والأواخر، وجمیع هؤلاء الأفاضل الأماثل اتّفقوا بأنّ ابن الصبّاغ كان من أكابر علماء السنّة، وأعاظم محدِّثیهم الأعلام [3] .

فهذه نسبته ونسبه، وفضله وحسبه، وعلمه وأدبه، فالأحسن والأحقّ والأولی أن اُقرّرها لك بهذا التقریر: لم یكتحل حدقة الزمان له بمثلٍ ولا نظیر، ولما تصل أجنحة الإمكان إلی ساحة بیان فضله الغزیر، كیف ولم یدانه فی الفضائل سابق علیه ولا لاحق، ولم یثنّ إلی زماننا هذا ثناءه الفاخر الفائق، وإن كان قد ثنّی ما أثنی علی غیره من كلِّ لقبٍ جمیلٍ رائق، وعلمٍ جلیلٍ لائق. إذن فالأولی لنا التجاوز عن مراحل نعت كماله، والاعتراف بالعجز عن التعرّض لتوصیف أمثاله، ویخطر ببالی أن لا أصفه، إذْ لا تسع مقدّمتی هذه علومه وفضائله وتصانیفه ومحامده، وله أكثر من خمسین كتاباً.









    1. نهج البلاغة (صبحی الصالح): الحكمة 21.
    2. شرح النهج لابن أبی الحدید: 4 / 252.
    3. راجع: جواهر العقدین للسمهودی الشافعی، ونزهة المجالس للصفوری الشافعی، وكشف الظنون لملّا كاتب چلبی، وإسعاف الراغبین للصبّان، وذخیرة المآل للعجیلی الشافعی.